الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
وتتضافر الروايات على أن قوله: {وما نتنزل إلا بأمر ربك..} مما أمر جبريل عليه السلام أن يقوله للرسول صلى الله عليه وسلم رداً على استبطائه للوحي فترة لم يأته فيها جبريل. فاستوحشت نفسه، واشتاقت للاتصال الحبيب. فكلف جبريل أن يقول له: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} فهو الذي يملك كل شيء من أمرنا:{له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك} وهو لا ينسى شيئاً، إنما ينزل الوحي عندما تقتضي حكمته أن ينزل {وما كان ربك نسيا} فناسب بعد ذلك أن يذكر الاصطبار على عبادة الله مع إعلان الربوبية له دون سواه:{رب السماوات والأرض وما بينهما}.فلا ربوبية لغيره، ولا شرك معه في هذا الكون الكبير.{فاعبده واصطبر لعبادته}.. اعبده واصطبر على تكاليف العبادة. وهي تكاليف الارتقاء إلى أفق المثول بين يدي المعبود، والثبات في هذا المرتقى العالي. اعبده واحشد نفسك وعبئ طاقتك للقاء والتلقي في ذلك الأفق العلوي.. إنها مشقة. مشقة التجمع والاحتشاد والتجرد من كل شاغل، ومن كل هاتف ومن كل التفات.. وإنها مع المشقة للذة لا يعرفها إلا من ذاق. ولكنها لا تنال إلا بتلك المشقة، وإلا بالتجرد لها، والاستغراق فيها، والتحفز لها بكل جارحة وخالجة. فهي لا تفشي سرها ولا تمنح عطرها إلا لمن يتجرد لها، ويفتح منافذ حسه وقلبه جميعاً.{فاعبده واصطبر لعبادته}.. والعبادة في الإسلام ليست مجرد الشعائر. إنما هي كل نشاط: كل حركة. كل خالجة. كل نية. كل اتجاه. وإنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا كله إلى الله وحده دو سواه. مشقة تحتاج إلى الاصطبار. ليتوجه القلب في كل نشاط من نشاط الأرض إلى السماء. خالصاً من أوشاب الأرض وأوهاق الضرورات، وشهوات النفس، ومواضعات الحياة.إنه منهج حياة كامل، يعيش الإنسان وفقه، وهو يستشعر في كل صغيرة وكبيرة طوال الحياة انه يتعبد الله؛ فيرتفع في نشاطه كله إلى أفق العبادة الطاهر الوضيء. وإنه لمنهج يحتاج إلى الصبر والجهد والمعاناة.فاعبده واصطبر لعبادته.. فهو الواحد الذي يعبد في هذا الوجود والذي تتجه إليه الفطرة والقلوب.. {هل تعلم له سمياً}. هل تعرف له نظيراً؟ تعالى الله عن السمي والنظير..
.تفسير الآيات (66- 98): {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)}مضى السياق في السورة بقصص زكريا ومولد يحيى؛ ومريم ومولد عيسى؛ وإبراهيم واعتزاله لأبيه. ومن خلف بعدهم من المهتدين والضالين، وبالتعقيب على هذا القصص بإعلان الربوبية الواحدة، التي تستحق العبادة بلا شريك؛ وهي الحقيقة الكبيرة التي يبرزها ذلك القصص بأحداثه ومشاهده وتعقيباته.وهذا الدرس الأخير في السورة يمضي في جدل حول عقائد الشرك وحول إنكار البعث. ويعرض في مشاهد القيامة مصائر البشر في مواقف حية حافلة بالحركة والانفعال، يشارك فيها الكون كله، سماواته وأرضه، إنسه وجنه، مؤمنوه وكافروه.ويتنقل السياق بمشاهده بين الدنيا والآخرة، فإذا هما متصلتان. تعرض المقدمة هنا في هذه الأرض، وتعرض نتيجتها هنالك في العالم الآخر، فلا تتجاوز المسافة بضع آيات أو بضع كلمات. مما يلقي في الحس أن العالمين متصلان مرتبطان متكاملان.{ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتياً ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا}.يبدأ المشهد بذكر ما يقوله {الإنسان} عن البعث. ذلك أن هذه المقولة قالتها صنوف كثيرة من البشر في عصور مختلفة؛ فكأنما هي شبهة {الإنسان} واعتراضه المتكرر في جميع الأجيال:{ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا}..وهو اعتراض منشؤه غفلة الإنسان عن نشأته الأولى. فأين كان؟ وكيف كان؟ إنه لم يكن ثم كان؛ والبعث أقرب إلى التصور من النشأة الأولى لو أنه تذكر:{أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً}.ثم يعقب على هذا الإنكار والاستكبار بقسم تهديدي. يقسم الله تعالى بنفسه وهو أعظم قسم وأجله؛ أنهم سيحشرون بعد البعث فهذا أمر مفروغ منه:{فوربك لنحشرنهم}.. ولن يكونوا وحدهم. فلنحشرنهم {والشياطين} فهم والشياطين سواء. والشياطين هم الذين يوسوسون بالإنكار، وبينهما صلة التابع والمتبوع، والقائد والمقود..وهنا يرسم لهم صورة حسية وهم جاثون حول جهنم جثوّ الخزي والمهانة: {ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا}.. وهي صورة رهيبة وهذه الجموع التي لا يحصيها العد محشورة محضرة إلى جهنم جاثية حولها، تشهد هولها ويلفحها حرها، وتنتظر في كل لحظة أن تؤخذ فتلقى فيها. وهم جاثون على ركبهم في ذلة وفزع..وهو مشهد ذليل للمتجبرين المتكبرين، يليه مشهد النزع والجذب لمن كانوا أشد عتواً وتجبراً:{ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا}.وفي اللفظ تشديد، ليرسم بظله وجرسه صورة لهذا الانتزاع؛ تتبعها صورة القذف في النار، وهي الحركة التي يكملها الخيال!وإن الله ليعلم من هم أولى بأن يصلوها، فلا يؤخذ جزافاً من هذه الجموع التي لا تحصى. والتي أحصاها الله فرداً فرداً:{ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياً}.. فهم المختارون ليكونوا طليعة المقذوفين!وإن المؤمنين ليشهدون العرض الرهيب: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً} فهم يردون فيدنون ويمرون بها وهي تتأجج وتتميز وتتلمظ؛ ويرون العتاة ينزعون ويقذفون. {ثم ننجي الذين اتقوا} فتزحزح عنهم وينجون منها لا يكادون! {ونذر الظالمين فيها جثيا}..ومن هذا المشهد المفزع الذي يجثوا فيه العتاة جثو الخزي والمهانة، ويروح فيه المتقون ناجين. ويبقى الظالمون فيه جاثين.. من هذا المشهد إلى مشهد في الدنيا يتعالى فيه الكفار على المؤمنين، ويعيرونهم بفقرهم، ويعتزون بثرائهم ومظاهرهم وقيمهم في عالم الفناء:{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاماً وأحسن نديا}..إنها النوادي الفخمة والمجامع المترفة؛ والقيم التي يتعامل بها الكبراء والمترفون في عصور الفساد. وإلى جانبها تلك المجتمعات المتواضعة المظهر والمنتديات الفقيرة إلا من الإيمان. لا أبهة ولا زينة، ولا زخرف، ولا فخامة.. هذه وتلك تتقابلان في هذه الأرض وتجتمعان!وتقف الأولى بمغرياتها الفخمة الضخمة: تقف بمالها وجمالها. بسلطانها وجاهها. بالمصالح تحققها، والمغانم توفرها، وباللذائذ والمتاع. وتقف الثانية بمظهرها الفقير المتواضع، تهزأ بالمال والمتاع، وتسخر من الجاه والسلطان؛ وتدعو الناس إليها، لا باسم لذة تحققها، ولا مصلحة توفرها، ولا قربى من حاكم ولا اعتزاز بذي سلطان. ولكن باسم العقيدة تقدمها إليهم مجردة من كل زخرف، عاطلة من كل زينة، معتزة بعزة الله دون سواه.. لا بل تقدمها إليهم ومعها المشقة والجهد والجهاد والاستهتار، لا تملك أن تأجرهم على ذلك كله شيئاً في هذه الأرض، إنما هو القرب من الله، وجزاؤه الأوفى يوم الحساب.وهؤلاء هم سادة قريش تتلى عليهم آيات الله على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فيقولون للمؤمنين الفقراء: {أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً} الكبراء الذين لا يؤمنون بمحمد، أم الفقراء الذين يلتفون حوله. أيهم خير مقاماً وأحسن نادياً؟ النضير بن الحارث وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة وإخوانهم من السادة، أم بلال وعمار وخباب وإخوانهم من المعدمين؟ أفلو كان ما يدعو إليه محمد خيراً أفكان أتباعه يكونون هم هؤلاء النفر الذين لا قيمة لهم في مجتمع قريش ولا خطر؟ وهم يجتمعون في بيت فقير عاطل كبيت خباب؟ ويكون معارضوه هم أولئك أصحاب النوادي الفخمة والمكانة الاجتماعية البارزة؟.إنه منطق الأرض. منطق المحجوبين عن الآفاق العليا في كل زمان ومكان.وإنها لحكمة الله أن تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلاء، عاطلة من عوامل الإغراء. ليقبل عليها من يريدها لذاتها خالصة لله من دون الناس، ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات؛ وينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع، ومن يشتهي الزينة والزخرف، ومن يطلب المال والمتاع.ويعقب السياق على قولة الكفار التياهين، المتباهين، بما هم فيه من مقام وزينة بلمسة وجدانية ترجع القلب إلى مصارع الغابرين، على ما كانوا فيه من مقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين:{وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورئياً}..فلم ينفعهم أثاثهم ورياشهم وزينتهم ومظهرهم. ولم يعصمهم شيء من الله حين كتب عليهم الهلاك.ألا إن هذا الإنسان لينسى. ولو تذكر وتفكر ما أخذه الغرور بمظهر؛ ومصارع الغابرين من حوله تلفته بعنف وتنذره وتحذره، وهو سادر فيما هو فيه، غافل عما ينتظره مما لقيه من كانوا قبله وكانوا أشد قوة وأكثر أموالاً وأولاداً.يعقب السياق بتلك اللفتة ثم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم في صورة مباهلة بأن من كان من الفريقين في الضلالة فليزده الله مما هو فيه؛ حتى يأتي وعده في الدنيا أو في الآخرة:{قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكاناً وأضعف جندا ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير مردا}..فهم يزعمون أنهم أهدى من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم أغنى وأبهى. فليكن! وليدع محمد ربه أن يزيد الضالين من الفريقين ضلالاً، وأن يزيد المهتدين منهما اهتداء.. حتى إذا وقع ما يعدهم؛ وهو لا يعدو أن يكون عذاب الضالين في الدنيا بأيدي المؤمنين، أو عذابهم الأكبر يوم الدين فعندئذ سيعرفون: أي الفريقين شر مكاناً وأضعف جندا. ويومئذ يفرح المؤمنون ويعتزون {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير مردا} خير من كل ما يتباهى به أهل الأرض ويتيهون.ثم يستعرض السياق نموذجاً آخر من تبجح الكافرين، وقولة أخرى من أقوالهم يستنكرها ويعجب منها:{أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مداً ونرثه ما يقول ويأتينا فردا}..ورد في سبب نزول هذه الآيات بإسناده عن خباب بن الأرث قال: كنت رجلاً قيناً (حداداً) وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه منه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا والله، لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت ثم تبعث.قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثَم مال وولد، فأعطيتك! فأنزل الله: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدا...}.وقولة العاص بن وائل نموذج من تهكم الكفار واستخفافهم بالبعث؛ والقرآن يعجب من أمره، ويستنكر ادعاءه: {أطلع الغيب} فهو يعرف ما هنالك. {أم اتخذ عند الرحمن عهدا} فهو واثق من تحققه؟ ثم يعقب: {كلا}. وهي لفظة نفي وزجر. كلا لم يطلع على الغيب ولم يتخذ عند الله عهداً، إنما هو يكفر ويسخر؛ فالتهديد إذن والوعيد هو اللائق لتأديب الكافرين السافرين: {كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا}.. سنكتب ما يقول فنسجله عليه ليوم الحساب فلا يُنسى ولا يقبل المغالطة.. وهو تعبير تصويري للتهديد، وإلا فالمغالطة مستحيلة، وعلم الله لا تند عنه صغيرة ولا كبيرة. ونمد له من العذاب مداً، فنزيده منه ونطيله عليه ولا نقطعه عنه! ويستمر السياق في التهديد على طريقة التصوير أيضاً: {ونرثه ما يقول} أي نأخذ ما يخلفه مما يتحدث عنه من مال وولد كما يفعل الوارث بعد موت المورث! {ويأتينا فردا} لا مال معه ولا ولد ولا نصير له ولا سند، مجرداً ضعيفاً وحيداً فريداً.فهل رأيت إلى هذا الذي كفر بآيات الله وهو يحيل على يوم لا يملك فيه شيئاً؟ يوم يجرد من كل ما يملك في هذه الدنيا؟ إنه نموذج من نماذج الكفار. نموذج الكفر والادعاء والاستهتار..ويستطرد السياق في استعراض ظواهر الكفر والشرك:{واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا}.
|